تقول الكاتبة وأستاذة الفلسفة الفرنسية ساندرا لوجييه في كتابها الصادر عام ٢٠١٩ “حياتنا في مسلسلات”، Nos vies en séries، أنّ المسلسلات تُغيّر حياتنا بما فيها من ثقافة وتجارب حتى تُدخل المُشاهِد في جدل ديمقراطي من نوع آخر. فما بالك حينما يُشاركِك مسلسلاً بشخصياته وكافة عناصره الدرامية على مدار خمس سنوات على التوالي؟ وهذا ما ينطبق مع سلسلة أجزاء مسلسل” الهيبة” الذي حيكت خيوط نهايته في الساعات الأخيرة بعدما رافقنا على الشاشات الفضية في منازلنا منذ عام ٢٠١٧ لغاية ٢٠٢١.
“الهيبة” نموذج مثالي للدراما الواقعية
“الهيبة” في جزئه الخامس والأخير عالج ظاهرة الإرهاب وما يرافقها مِن فوضى، ليكون بذلك أقرب إلى مدرسة الدراما الواقعية. وهي المدرسة التي شقّت طريقها بصعوبة في عالم الدراما العربية منذ أيام رائد الدراما الواقعية الروائي نعمان عاشور التي تُرجمت أعماله لمسرحيات مروراً بسينما الواقع وأبرزها في نصوص العباقرة الراحلين إحسان عبد القدوس، نجيب محفوظ ويوسف السباعي، وصولاً لحقبة التسعينات لكن دراما الواقع اليوم تحاول أكثر وأكثر فرض النظرية التي لطالما آمن بها صناع الدراما “إنّ الدراما ما هي إلّا إنعكاس للواقع الذي نعيش”.
هذا ما قدّمته لنا فحوى المادة الدرامية الخاصة بمسلسل “الهيبة” وتحديداً في جزئه الأخير لأنه عكَس معاناة الشعوب راهناً من جرم الإرهاب. وننوّه هنا بأنّ الإرهاب كظاهرة، لقد تم تداولها في العديد من الأعمال العربية سواء في السينما أو التلفزيون على سبيل المثال لا الحصر:”فيلم الإرهاب والكباب عام ١٩٩٢، فيلم دم الغزال عام ٢٠٠٥، مسلسل الحور العين عام ٢٠٠٥ وغيرها”.
“الإرهاب” بعيون درامية جديدة
أما صناع الهيبة فلقد عالجوا الإرهاب بطرح جديد لإيصال رسالة توعوية في طيات حواره بين الشخصيات خاصة مع ما نستشفه بتبنّيهم لمبدأ “فرّق تسد” الذي أغرق منطقتنا العربية خاصة بما يُعرف ببلاد الشام لحين أوصلها إلى الهلاك من حروب وتدمير وتفقير وتهجير، وما يصب ذلك في خدمة الإرهاب مع تورط جهات داخلية وخارجية. وفي المقلب الآخر، أظهر المسلسل مدى ضرورة تماسك الشعوب خاصة في المناطق الحدودية لحماية الأرض من سرطان الإرهاب. وذلك بعدما عالجت قصص أجزائه السابقة قضايا تجارة الأسلحة والأخذ بالثأر وعادات العشائر، حيث تنوعت الأحداث في كل جزء مع تولّي عدة كتاب لتأليفه من هوزان عكو في الجزء الأول(الهيبة) ، باسم السلكا في الجزئين الثاني(الهيبة العودة) والثالث(الهيبة الحصاد)، فؤاد حميرة في الرابع (الهيبة الرد) مع ورشة عمل من الكتاب كذلك الأمر في جزئه الأخير (الهيبة جبل). وتصدّرت في أحداث هذه الأجزاء شخصيات رئيسية ألا وهي: تيم حسن بدور البطولة في شخصية جبل شيخ الجبل، القديرة منى واصف بدور الست ناهد، أويس مخللاتي بدور صخر شقيق البطل، عبده شاهين بدور شاهين إبن عم البطل.
وترافقت تلك الأجزاء مع تغيّر بعض الأبطال، فبالنسبة للبطولات النسائية كانت الممثلة اللبنانية نادين نسيب نجيم هي بطلة الجزء الأول بدور عليا، أما الجزء الثاني فبطلته النجمة اللبنانية نيكول سابا وإنضم لهذا الجزء عدداً من كبار نجوم الدراما اللبنانية : عبد المجيد مجذوب، رفيق علي أحمد، وعلي الزين. وفي الجزء الثالث إنضمت النجمة اللبنانية سيرين عبد النور لنجوم العمل. أما في الرابع، شهد إنضمام كل من الممثلة السورية ديما قندلفت والممثل ومقدم البرامج اللبناني عادل كرم. بينما في الخامس شارك في بطولته إلى جانب الأبطال الرئيسيين كل من الممثل السوري عبد المنعم عمايري والممثلة اللبنانية إيميه صياح.
الخير والشر… صراع كل زمان ومكان
بالنسبة للسياق الدرامي الذي عالج الخط الدرامي العريض الآنف ذكره في الجزء الخامس، تجلّى الصراع في هذا الجزء بين الخير المُمثَّل بالبطل الرئيسي للمسلسل الممثل السوري تيم حسن – جبل الشيخ جبل- بينما تمثّل الشر بالمهندس وديع الذي قدم شخصيته الممثل عبد المنعم عمايري. وتأتي ذروة هذا الصراع بينهما في حوار دار ضمن أحداث الحلقة التاسعة والعشرين حينما قال وديع لجبل “بيني وبينك كره من أول نظرة”، واللافت هنا أنّ وديع إستخدم عبارة رددها الثوار اللبنانيون في ثورة 17 تشرين الاول إذ قال وديع لجبل “إنت وعشيرتك لازم نخلص منكن كلكن يعني كلكن”.
والحق يُقال أنّ عمايري – الممثل والأستاذ في معهد الفنون-تقمّس شخصية وديع لدرجة جعلت الجمهور يلمس الشر الشيطاني من شرارة عينيه خلال أدائه لكافة مشاهده، وعنصر الإبهار في تجسيد عمايري لأي شخصية درامية ليس بجديد عليه فهو لطالما عوّدنا على التميّز.
دور الإعلام للحد من الإجرام
كما لم يغفل هذا الجزء عن رسم خط عاطفي موازي للخط الدرامي الرئيسي حيث وقع جبل في حب الصحفية سارة التي قدمت دورها الممثلة اللبنانية إيميه صياح حيث حملت هذه الشخصية رمزية تتلخص بمدى أهمية دور الإعلام للحد من إجرام الإرهاب.
الأمومة بين القوة والضعف على أرض الهيبة
ما لفتنا أيضاً أنّ هذا الجزء ركّز في إحدى زوايا قصته الدرامية على الأمومة التي تكرست في دور منى اي الممثلة السورية روزينا لاذقاني التي حاولت في سياق الأحداث الهروب من الهيبة بحثاً عن الأمان لنجلها الوحيد بعدما خسرت جنينها. وهذا ما يُترجم معاناة الأمهات في منطقتنا بظل ما تشهده من فقدان للإستقرار والأمان. لكن بمقاربة ومقارنة عكسية، رأينا دور الأم القوية التي قدمتها سيدة الشاشة التلفزيونية منى واصف حيث أبهرتنا بمدى صلابة الأم رغم إمتلائها بالعاطفة، وهي التي أغرقتنا معها في كافة تفاصيل الشخصية بلغة جسدها وعينيْها مع كل مشهد.
شخصيات درامية بإحترافية عالية
وكل شخصية من شخصيات العمل رُسِم خطها بشكل مدروس مع تصاعد الأحداث وصولاً إلى الذروة، فبالنسبة للشخصية الرئيسية جبل، لقد قدّمها الممثل السوري تيم حسن بإحترافية عالية ولطالما تحدّثنا عنها خلال السنوات الأخيرة، إذ حققت نجاحاً وإنتشاراً وشعبية حتى بات العديد من الشباب يعتمدون “لوك” تيم ويكرّرون عباراته الشهيرة التي اكتسحت منصات التواصل الاجتماعي، والجديد في هذا الجزء أنّ بعض مصطلحات جبل أضافت “إيفيه كوميدي” مميز. ولا يغفل على أحد مدى تمرّس حسن في كيفية إعداده للشخصية التمثيلية بكامل إكسسواراتها لإقناع المُشاهِد وكأنها حقيقية وليست مجرد دراما.
“شاهين”، قدّم الممثل اللبناني عبده شاهين هذه الشخصية التي انتهى دورها في مقتلها دفاعاً عن الهيبة أرضاً وناساً، ليُمثّل بذلك دور الشاب الفدائي للتضحية من أجل الوطن والشعب، وهذا ما يشبه عبده فعلاً في شخصيته الوطنية.
كما لا بد من إلقاء الضوء على شخصية علي التي شهدت مساحة درامية أكبر في هذا الجزء، وهي الشخصية التي جسّدها الممثل اللبناني سعيد سرحان (أحد المشاركين في كتابة المسلسل)، والذي من خلالها ظهرت موهبته أكثر فأكثر للجمهور العربي حيث نتوقع له تطوراً مهنياً خلال الفترة القادمة لأنّ هذا الدور أبْرز مهاراته ومنَحه الإنتشار العربي، وهو ما يستحقه عن جدارة.
صعوبات لوجستية يتحداها فريق متخصص
فضلاً عن الشخصيات والقصة، يجب تسليط الضوء على الصعوبات اللوجستية التي واجهها صناع العمل خاصة في مشاهد القتال التي ظهرت واقعية في تنفيذها. وهنا يأتي الدور الهام الذي قدمه الفريق المتخصص بين مصممي المعارك، عداك عن التصوير(إختيار موفّق للكادرات من مختلف الزوايا) والإضاءة والمكياج إلخ… وعلى رأسهم مايسترو “الهيبة” أي المخرج السوري سامر البرقاوي الذي وضع هندسته الإخراجية في مشروع درامي سيعيش للأجيال، فأتت حنكته الفنية لفرض إدارته الإخراجية بدقة متناهية ما جعل ورق النص الدرامي قصة حقيقية نعيشها بحذافيرها.
وبالطبع كل هذه العناصر الدرامية الناجحة قدّمها شيخ المنتجين العرب صادق الصباح وعرّابي “الهيبة” من شركة الصبّاح إخوان التي تحاول جاهدة تقديم دراما عربية ذات قيمة وقامة رغم كافة الظروف الصعبة التي نعيشها.
تتر الهيبة بصوت ناصيف زيتون “ميغا هيت”
ولا يمكننا الحديث عن إنتهاء أجزاء مسلسل “الهيبة” دون التطرق إلى النجاح الباهر الذي حققه التتر الغنائي لهذا العمل بصوت النجم ناصيف زيتون تحت عنوان “مجبور”… “لمّا تبقى القسوة نوع من الكرامة، مجبور إقسى، سامحيني عالقسوة سلف، مجبور هلأ أوقف مع جروحي طرف…” هذه الكلمات حفظها الجمهور العربي عن ظهر قلب وردّدها كثيراً منذ أن قدّمها ناصيف (كلمات علي المولى، ألحان فضل سليمان، توزيع موسيقي جيمي حداد)، إلا أنّ معناها تجلّى بوضوح في الحلقة السادسة من المسلسل المذكور في جزئه الثاني. ففي الجزء الأول إعتقد الجمهور أنّ هذه الأغنية أتت بمثابة إعتراف من بطل المسلسل الممثل السوري تيم حسن بدور جبل لبطلة الجزء الأول الممثلة اللبنانية نادين نسيب نجيم بدور عليا حيث لم يتعرّف المُشاهِد في ذاك الجزء على هوية حبيبة جبل. أما في الحلقة السادسة، فتطوّرت الأحداث الدرامية بشكل متسارعٍ إذ شهَدت زواج جبل شيخ الجبل من سمية السعيد (النجمة اللبنانية نيكول سابا) لأنه مضطراً للإقدام على هذه الخطوة من أجل إيقاف عملية الثأر وسفك الدماء بين آل شيخ الجبل وآل سعيد في الهيبة بعد مقتل والده سلطان (الممثل اللبناني القدير عبد المجيد مجذوب). ولو تمعّنا في الحوار الذي دار بين جبل ووالدته الست ناهد (الممثلة السورية القديرة منى واصف)، فسنُدرك معنى التتر الخاص بالمسلسل حيث يقول جبل لوالدته:”مجبور إقسى… دست على قلبي، تركت بنت مظلومة كانت ناطرتني”. وفي ذلك معنى واضح لما جاء في أغنية “مجبور” خاصة مع تكرار جبل لعبارة “مجبور” في الحلقة السادسة حينما إستذكر حبيبته مريم (فاليري أبو شقرا) التي أُجبِر على الإنفصال عنها من أجل الزواج من سمية.
وبعد مرور خمس سنوات على طرح الموسم الأول من المسلسل، ما زال تتر “مجبور” بمثابة “ميغا هيت” لدى الجمهور.
إنجازات محلية وعالمية للهيبة
مع إنتهاء سلسلة أجزاء” الهيبة”، نستعرض بعض إنجازاته وأبرزها أنّ شركة القمر التركية Ay Yapım للإنتاج قامت بشراء حقوقه من أجل تقديمه بنسخة تركية، وهذه سابقة من نوعها حيث اعتدنا على تقديم نسخ عربية من المسلسلات التركية وليس العكس. أيضاً نتذكر أنه بعد عرض الجزء الأوّل منه، إختار القيّمون على معرض “ميبكوم” وهو سوق المُحتوى الترفيهي الذي يُقام سنوياً في مدينة كان الفرنسيّة، مُناقشة العناصر الرئيسيّة التي ساهمت في نجاح مُسلسل “الهيبة” والحالة الشعبيّة التي فرضها هذا العمل على نطاق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أما بعد عرض جزئه الثاني، وصلت أصدائه للصحافة الفرنسية إذ إهتمّت إحدى مقالات صحيفة “Le Monde” العالميّة بهذا المسلسل حيث كُتِب عنه بقلم الصحافية Laure Stephan مقالاً تحت عنوان Au Liban, la Bekaa craint pour son prestige ورصدت مدى تأثير هذا المسلسل والجدل الذي أثاره في المجتمع اللبناني( Al-Hayba fait aujourd’hui débat dans la société libanaise ).
يمكنكم نشر مقتطفات من المقال الحاضر، ما حده الاقصى 25% من مجموع المقال، شرط: ذكر اسم المؤلف والناشر ووضع رابط Aghani Aghani (URL) الإلكتروني الذي يحيل الى مكان مصدر المقال، تحت طائلة تطبيق احكام قانون حماية الملكية الفكرية.
