حين يُذكر اسم فيروز، يتوقف الكلام ليُفسح المجال لصوتٍ صار جزءًا من هوية لبنان والعالم العربي. السيدة التي حملت لقب “جارة القمر” و”سفيرتنا إلى النجوم” لم تكن مجرد مطربة، بل ذاكرة جماعية تختزنها الأجيال، وتعيد اكتشافها مع كل صباح جديد. في عيد ميلادها الـ91، تبدو فيروز أكثر من أي وقت مضى رمزًا للخلود الفني. فهي الصوت الذي غنّى للحب والحرية، للقدس وللبنان، وجعل من الأغنية القصيرة قصيدة كاملة تختصر الحنين والفرح والوجع في دقائق معدودة. لم تكن أغنياتها مجرد ألحان، بل رسائل وجدانية حملت الوطن في حنجرتها، وصاغت ذاكرة أجيال بأغنيات لا تزال تُردد حتى اليوم. من “البوسطة” التي تحولت إلى نشيد للحب الشعبي، إلى “كيفك إنت” التي صارت مرجعًا للحنين الشخصي، ومن “سهر الليالي” التي جمعت العائلات حول الراديو، إلى “حبيتك بالصيف” التي اختصرت مواسم العاطفة، ظل صوتها يرافق الناس في تفاصيل حياتهم اليومية، كأنه جزء من طقوسهم الخاصة. فيروز ليست مجرد اسم في سجل الغناء؛ هي أرزة لبنان التي بقيت شامخة رغم العواصف، وهي الوجه الثقافي الذي عبر من حدود الجغرافيا ليصبح رمزًا عالميًا. حضورها الفني لم يكن يومًا عابرًا، بل هو امتداد طبيعي لروح بلد يبحث عن معنى وجوده في الفن كما في الحياة. هذا العام، يأتي عيد ميلادها محمّلًا بظلال الغياب بعد رحيل ابنها زياد الرحباني، الذي شكّل معها ثنائية فنية استثنائية. ومع ذلك، يبقى حضوره حاضرًا في كل لحن وزاوية من إرثها، وكأن العلاقة بين الأم والابن تحولت إلى ذاكرة موسيقية لا تموت. اللافت أن جمهورها لا يتعامل مع عيد ميلادها كحدث شخصي، بل كعيد جماعي. تنهال المعايدات من الفنانين والمحبين، وتُعاد مشاركة صورها وأغنياتها وكأنها جزء من طقوس وطنية. كلمات الفنانة إليسا التي وصفتها بـ “التراث والهوية والإحساس” تلخص مكانتها كأيقونة لا تتكرر فيما كتبت ماجدة الرومي أن فيروز “صوت لبنان الذي لا ينطفئ”، أما كارول سماحة فأكدت أن “فيروز هي المدرسة التي نتعلم منها معنى الفن”، بينما اعتبرت نوال الزغبي أن “فيروز هي الأمان والذاكرة”. الإعلامي ريكاردو كرم بدوره وصفها بأنها “ذاكرة وطنية لا تموت” هذه المعايدات لم تكن مجرد كلمات، بل شهادات تؤكد أن فيروز ليست ملكًا لعصر واحد، بل لكل الأزمنة. الكتابة عن فيروز ليست مجرد سرد لسيرة، بل محاولة للاقتراب من سرّها الذي لم يُكشف بعد. فهي الصوت الذي يربط بين الأجيال، والذاكرة التي تعيدنا إلى لحظة صفاء وسط عالم متغير. فيروز ليست في الماضي ولا في الحاضر فقط؛ هي في كل زمن، لأنها ببساطة صوت لا يشيخ.
يمكنكم نشر مقتطفات من المقال الحاضر، ما حده الاقصى 25% من مجموع المقال، شرط: ذكر اسم المؤلف والناشر ووضع رابط Aghani Aghani (URL) الإلكتروني الذي يحيل الى مكان مصدر المقال، تحت طائلة تطبيق احكام قانون حماية الملكية الفكرية.









