في زمنٍ تتبدّل فيه الأصوات وتبهت فيه الرموز، تبقى أم كلثوم استثناءً لا يُمحى. خمسون عامًا مرّت على رحيلها، ولم يهدأ صدى صوتها في الوجدان العربي. لم تكن “الست” مجرد مغنية، بل كانت ذاكرة وطن، وصوتًا يتجاوز الغناء ليصبح مرآةً للهوية، ونداءً للكرامة، ورفيقًا للوجدان في لحظات الانكسار والانتصار.وفي الذكرى الخمسين، أعادت وزارة الثقافة المصرية فتح نوافذ الحنين على صوتها، من خلال معرض “صوت مصر” في قصر عائشة فهمي بالزمالك. المعرض لم يكن مجرد عرض فني، بل رحلة روحية إلى عالم أم كلثوم، حيث تتنفس الجدران عبق التاريخ، وتهمس اللوحات بما لا يُقال.قصر يحكي ذاكرة الصوتاختيار قصر عائشة فهمي لم يكن صدفة. المكان نفسه يتقاطع مع بدايات أم كلثوم في القاهرة، ويجاور الحي الذي احتضن خطواتها الأولى. القصر، الذي كان يسكنه النبل، صار فضاءً يعيد إنتاج الأسطورة. كل جدار فيه يروي حكاية، وكل زاوية تستدعي لحظة من زمن الست.رافق المعرض 28 فنانًا مصريًا من أجيال مختلفة، أعادوا رسم صورة أم كلثوم، لا كمحاكاة فوتوغرافية، بل كإعادة إنتاج لأسطورة تتجدد. اللوحات لم تكن نسخًا، بل تأويلات، وكل فنان رأى فيها وجهًا مختلفًا للمرأة التي غنّت “أنت عمري” وكأنها تخاطب كل واحدٍ منّا.وثيقة الميلاد… وتاريخ لا يُنسىمن أبرز ما احتواه المعرض، وثيقة ميلاد أم كلثوم التي حسمت الجدل حول تاريخ ولادتها: 4 مايو 1904. الورقة الرسمية لم تكن مجرد تاريخ، بل مفتاح لحياة بدأت في الريف وانتهت كأسطورة خالدة. بين عامَي 1898 و1904، ظل المؤرخون يتجادلون، لكن الوثيقة جاءت لتقول: هذه هي البداية.طفولة صنعت الصبر والصدقفي مذكراتها، كتبت أم كلثوم عن والدتها التي علّمتها التواضع، وعن والدها الذي أخفى ضيق العيش كي لا تشعر بالحرمان. قالت: “لم أسمع من أبي وأمي شكوى بصوت مسموع من الفقر الذي كنا نعيشه”. تلك الطفولة القاسية لم تصنع فيها مرارة، بل غرست فيها حبًا للبسطاء، وصبرًا ظل يرافقها حتى آخر أيامها.عشرة قروش… بداية المجدبدأت بالغناء في الثامنة من عمرها، تؤدي الأناشيد أمام مأذون القرية دون مقابل. أول أجر حصلت عليه كان عشرة قروش، بعد أن أسرت الحاضرين في زفاف أحد أقاربها. تلك اللحظة كانت بداية سلسلة من الحفلات التي أخذتها من ريف الدقهلية إلى صخب القاهرة، ومن الهامش إلى قلب المشهد الفني.القاهرة… الحلم الذي لا يُقاومالانتقال إلى القاهرة لم يكن سهلاً. والدها تردد، لكن الشيخ أبو العلا محمد أقنعه بأن “حبس هذه الموهبة في قرية صغيرة جريمة”. في مذكراتها، تحدثت عن “تحويشة العمر”، 15 جنيهًا ادّخرتها من مصروفها، فقدتها في إحدى الحفلات، لكنها لم تفقد الحلم. كانت القاهرة نداءً لا يُقاوم، وكانت أم كلثوم مستعدة لتلبيته.النجومية… حين يتكامل الفنالإعلانات القديمة لحفلاتها في العشرينيات كشفت عن مشهد ثقافي نابض، حيث غنّت إلى جانب نجيب الريحاني وعلي الكسار. كانت تلك الحقبة شاهدة على تكامل الفنون، وعلى سرعة صعودها في قلب العاصمة. لم تكن مجرد مطربة، بل كانت صوتًا يعلو فوق المسرح، ويخترق جدران الزمن.أم كلثوم… ليست ذكرى بل حضور دائمفي الذكرى الخمسين، لا نرثي أم كلثوم، بل نحتفي بها. هي ليست ماضٍ يُستعاد، بل حضورٌ يتجدد. صوتها لا يزال يوقظ الذاكرة، ويعيد تشكيل الوجدان. في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات وتقل فيه الرموز، تبقى “الست” هي الصوت الذي لا يُنسى، والمرأة التي غنّت للحب، وللوطن، وللناس… وكأنها تعرفنا جميعًا.


يمكنكم نشر مقتطفات من المقال الحاضر، ما حده الاقصى 25% من مجموع المقال، شرط: ذكر اسم المؤلف والناشر ووضع رابط Aghani Aghani (URL) الإلكتروني الذي يحيل الى مكان مصدر المقال، تحت طائلة تطبيق احكام قانون حماية الملكية الفكرية.









